الاثنين، 10 نوفمبر 2014

سلوك الحيوان: شخصيّة الكائنات في البريّة

يبدو أنّ للصفات السلوكيّة تأثيرًا على لياقة وصحّة الحيوان، كما أنّ مزيج الصفات قد يتغيّر خلال فترة حياة الحيوان، حسبما أظهرت دراسة أجريت على سمك السلمون البريّ الصغير المرقّط في مرحلة مهمة من نموه.

تبدو الحياة صعبة لسمكة صغيرة من سمك السلمون البُنيّ المُرقّط في جدول ماء سويدي بارد، فهناك الكثير من الأخطار المحدقة بها، التي يجب عليها الاحتراس منها، كحيوان الِمنك الجائع المتوارِي، منتظرًا الهجوم عليها، والمهمات الأخرى المتعددة التي يجب عليها القيام بها، كالتنافس على الغذاء. والحقيقة أن فرصة بقاء هذا السمك على قيد الحياة حتى بلوغ مرحلة النضج1 لا تتجاوز 10%. وإذا استطاعت سمكة التغلّب على الظروف غير الاعتياديّة، والبقاء على قيد الحياة في هذه المرحلة الخطرة، فإنها تظهر بشكل مُختلف عن ذي قبل، ليست أكبر حجمًا فحسب، وإنمّا مختلفة أيضًا من الناحية السلوكيّة.
وقد قام الباحثان أدريانسنس وجونسون بدراسة ـ نُشرت مؤخرًا في صفحات مجلة «إيكولوجي ليترز»2 ـ أظهرت أنّ الأفراد الذين تغلبوا على المآزق يمكن توقّع التصرفات التي ستصدر عنهم، مقارنةً بما سلف من حياتهم. ويقودنا هذا إلى طرح التساؤل التالي: هل يُعزى ذلك إلى تعرّض السمك للمصاعب في سن مبكِّرة؟ أم هل كان هذا السمك هو الأفضل في التكيّف منذ البداية؟ إنّ النتائج التي قدمّها الباحثان أدريانسنس وجونسون تشير إلى أن الإجابة هي مزيج مثير من هذين العاملين.
وتُعتبر شخصيّة الحيوانات موضوعًا شيقًا للباحثين، لِمَا يُعرف عنها من المرونة، فعلى خلاف الكثير من الصفات الشكليّة، يُظهر سلوك الحيوانات قابليّته على التغيّر بشكل فوري.. ففي ثوان معدودة، قد تكون السمكة في مهاجمة كائن متطفل بشكل عدواني، ثمّ تنتقل لنشاطها في البحث عن الغذاء وحيدةً وسط تيّار الماء. وثمة دليل متنامٍ يشير إلى أنّ السلوك لا يتغيّر دائمًا بشكل لحظيّ، بل تبقى هذه الحيوانات مُحتفِظةً بسمات معيّنة لشخصياتها مع مرور الوقت. وهناك رأي3 يفترض أنّ هذه السمات التي تتحلّى بها هذه الحيوانات قد تكون ناتجة من القيود المفروضة عليها: الآليات الطبيعية التي تحدّ من قابليّة الفرد للتغيّر، كالميل الوراثيّ، في حين يذكر تفسير بديل4 أنّ الاختلافات المتناغمة بين الأفراد تعزى إلى تكيّفها مع الظروف البيئيّة المحيطة بها من خلال ما يُعرف بالانتخاب الطبيعيّ. وهناك ما يُثبت صحّة النموذجين المطروحين؛ نموذج القيود المفروضة5، ونموذج التكيّف6 المدعوم بالبحوث التي أظهرت أنّ تناسق السلوك ينشأ من المرونة السلوكيّة (عندما يقوم فرد بتغيير سلوكه، استجابةً للعوامل البيئيّة المحيطة به)، والبقاء غير العشوائي7على قيد الحياة. ومع ذلك.. لا يمكن إغفال عامل أن هذه الدراسة أجريت في المختبر، حيث الحياة أكثر بساطة نسبيًّا. وتكمن أهمية العمل الذي قام به كل من أدريانسنس وجونسون في إبراز كيف يمكن للشخصيّات التكيفية أن تظهر في البرية.
قام العاملون على هذه الدراسة باصطياد سمك السلمون المُرقّط الصغير ذي اللون البُنيّ، البالغ من العمر قرابة شهرين ونصف من جدول مائي غرب السويد، وأعطوا كلًّا منها علامة لونية مميّزة. بعدها، مرّت سمك السلمون المُرقطة بسلسلة اختبارات سلوكية في مختبر البحث، كان من بين هذه الاختبارات، اختبار «المجال المفتوح» والذي توضع فيه السمك على نحو انفراديّ في ميدان مفتوح، ويتمّ مراقبتها لتحديد ما إذا كانت السمك من النوعية التي تستكشف كل ما حولها، أم أنّها من النوع الآخر قليل الحركة الذي يفضّل البقاء ساكنًا في نقطة واحدة. يتضمن اختباٌر آخر مواجهة خصم ـ في هذه التجربة يكون خصم السمكة هو انعكاس السمكة ذاتها في المرآة - هنا يقوم الباحثون بمراقبة السمكة لمعرفة فيما إذا هاجم الفرد خصمه، أم أنّه من النوع غير العدائيّ نسبيًّا. وبعد تقييم كل سمكة من خلال نتائج الاختبارات التي خضعت لها، يقوم الباحثون بإعادة جميع السمك إلى جدول الماء.

الشكل 1 | النشاط السمكيّ. أظهرت الدراسة 2 التي قام بها الباحثان أدريانسينس وجونسون على سمك السلمون المُرقّط البريّ ذي اللون البُنيّ «Salmo trutta» أنّ السمكة التي بيَّنت مستويات عالية من النشاط بشكل مستمر كانت أكثر مَقدرة على العيش في الأشهر الأولى من حياتها.


وبعد مرور شهرين، عاد أدريانسنس وجونسون إلى جدول الماء مرة أخرى لاسترجاع السمك، وحصلوا على 28 سمكة من أصل 81 سمكة تمّ اختبارها سابقًا. ومع افتراض أنّ السمك الذي لم يتمكنوا من الحصول عليه قد مات، فقد أظهرت تحليلات الباحثين أنّ سلوك الفرد يمكن أن يتنبأ بمقدرته على البقاء حيًّا، حيث أبدى السمك عالي النشاط في اختبار المجال المفتوح قابلية للعيش لمدة تبلغ أربعة أشهر ونصف الشهر، بالمقارنة بالسمك قليل الحركة. هناك تفسيٌر آخر يقول إنّ السمك الخامل لم يمت، وإنما تعذر الإمساك به مرة أخرى، وربما تشتت في مكان الدراسة، غير أنّ أدريانسنس وجونسون قدما أدلّة تدحض صحّة هذين الاحتمالين، وهي أن عمليّة الإمساك بالسمك الخامل أسهل، لأنّ حركته في الماء محدودة جدًّا وغير بعيدة، وبذلك فإنّ أول نتيجة تمّت ملاحظتها في هذه الدراسة هي اعتماد عمليّة الانتخاب الطبيعيّ على الاختلافات في السلوك بين أفراد المجتمع الواحد في الطبيعة.
وضع الباحثون السمك الذي أمسكوا به في الاختبارات ذاتها مرة أخرى، فوجدوا أنّ سلوكه قد اختلف عن ذي قبل، بسبب الوقت الذي أمضاه في مياه الجدول بعد عودته من فترة الاختبار الأولى، فقد كان السمك أكثر نشاطًا في عمر الأربعة أشهر ونصف الشهر، بالمقارنة بما كان عليه في عمر شهرين ونصف الشهر. وبالرغم من هذه الاختلافات الحاصلة في سلوكه، والتلقبات في الحياة البريّة، فإنّ السمكات المتبقية من الدراسة الأولى، التي تمّ الإمساك بهم مرة أخرى ما زالت تحتفظ بسمات شخصياتها بشكل نسبيّ. وعلى سبيل المثال.. السمكة التي كانت الأكثر نشاطًا في الجولة الأولى من الاختبارات بقيت كذلك.
وأخيرًا.. ولعلها من الأشياء الأكثر غرابًة التي قام أدريانسنس وجونسون بتسجيلها هي أنّ سلوك الفرد أصبح أكثر تميّزًا. فالسمك الصغير لم يحافظ على سلوكه خلال اختبارات السلوك المختلفة، لكن السمك الكبير قام بذلك.. فهذا السمك الذي كان في مرحلة تمهيدية يقوم باستكشاف ما حوله، أصبح الآن أكثر عدوانية. بعبارة أخرى، فإنّ التنبؤ بسلوكياته أصبح أفضل. وقد ظهرت متلازمة سلوكيّة3 تربط أعراض السلوك الاستكشافيّ بالسلوك العدائيّ. وهناك طريقتان لحدوث مثِل هذا الأمر: أولهما، أنّ السمك ذا الطابع الاستكشافيّ نسبيا والعدائيّ، والسمك غير المستكشف نسبيًّا وغير العدائيّ بقي على قيد الحياة. وهناك خيار بديل، هو أنّه من المُحتمل أنّ السمكات غيّرت من سلوكياتها مع مرور الوقت، الأمر الذي أدّى إلى اقتران بعض السلوكيّات المختلفة ببعضها. وقدّم كل من أدريانسنس وجونسون تفسيراٍت لدعم هاتين الآليتين، لكنهما لم يكونا قادرين على فصل الاثنتين تمامًا. لذا.. يبدو أنّ تصميم اختبارات لإثارة كل من العمليتين على حِدة سيكون هدفا ملحًّا لأعمال مستقبلية أخرى. ويبدو أننا بحاجة أيضًا إلى المزيد من الدراسات التي تحدد ما إذا كانت هناك تبعات لبقاء السمك على قيد الحياة بشكل غير عشوائي في الجيل التالي، وبعبارة أخرى.. النظر فيما إذا كان التنوّع السلوكيّ مورّثًا.
ويبقى السؤال الأكبر ـ بالرغم من ذلك ـ قائمًا: لماذا أصبح التنبؤ بسلوك السمكة الواحدة ممكنًا؟ أي لماذا أصبحت السلوكيّات المختلفة تقترن معًا؟ وما هي الفوائد المُتعلّقة بالصحة التي قد تجنيها سمكة السلمون المرقطّة عند ممارستها لسلوكٍ ما بشكل مستمر؟ هناك عديد من الفرضيّات التي ظهرت لتفسّر لماذا ترتبط بعض السلوكيّات معًا8. وعلى سبيل المثال.. قد تكون هناك فائدة مجنية من توقّع سلوك السمكة9، لكن حتى الآن هناك فقط القليل من الاختبارات التجريبيّة لهذه الافكار، وهو ما يقدّم تحديًا جديدًا لأعمال مستقبلية.



مودة محمد البركاتي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق